لقطات من الإنتفاضة الشعبانية

1٬065

لقطات من الإنتفاضة الشعبانية

إلتقطها / أحمد رضا المؤمن

تشهد الإنتفاضة الشعبانية الإسلامية المباركة عام 1991 مظلومية مضافة إلى ما تعرضت لها حينها من قمع ومقابر جماعية وخذلان وتآمر تتمثل بالمظلومية الإعلامية بما تستحقه من إستذكار إستثنائي ودائم مفترض .

هذا الأمر دفعني إلى المساهمة ومن مُنطلق الوفاء لذكرى أشرف وأشجع وأنبل إنتفاضة في تأريخ العراق المعاصر التي نعيش ذكراها الخالدة هذه الأيام أن أقوم بتوثيق ما تيسر أو ما تبقى من ذاكرة طفولية تختزن ذكريات أرى أن من المهم تسجيلها ونشرها مهما بدت بسيطة في مُحاولة لإنعاش الذاكرة العراقية الوفية لأمجادها وأيامها الذهبية مهما تناساها بعض الناس أو أغلب القوى السياسية ، بل وإتخذوها سرجاً يمتطون به تأريخ مليء بدماء الضحايا الأبرياء والشهداء الأبطال لتأتي هذه القوى وتتاجر بهذا التأريخ المضمخ بدماء العز والكرامة والإباء والبطولة والإيمان .

بداية ..

كُنت في سن الحادية عشرة عندما إندلعت الإنتفاضة الشعبانية المباركة في آذار 1991م والتي لم أنسى تفاصيلها اليومية ، إذ عشت أحداثاً مُهمّة فيها رغم صغر سني نظراً لأن أسرتي كانت ولا زالت تحرص على إستذكار أحداث الإنتفاضة في كُل عام وكأنها حدثت بالأمس ، فكنت أستذكر مع أهلي أحداثها المشوقة التي تدخل علينا مشاعر إنسانية نبيلة تتعلق بالإنتصار للحق والقضاء على النظام البعثي وآثاره العفنة .

إلا أن إستذكارنا هذا كان دائماً يصل إلى مرحلة الغصّة والأسى والحسرة عندما نمر بالفصل الأخير من أحداث الإنتفاضة عندما أجهضتها الإرادة الأمريكية التي كانت مرعوبة من هوية وخطى وأهداف ونزاهة وطهارة هذه الثورة الإسلامية التحررية الشعبية الخالصة فكان ما كان من إطلاق يد الطاغية المجرم وكلابه من البعثيين والحرس الجمهوري ليحص ما يحصل من مآسي ومقابر جماعية ووو …

واليوم عند كتابتي عن ما علُق في ذاكرتي بخصوص هذه الإنتفاضة فإنني لا أبتغي توثيق حدث مُغيب أو مُهمش بقدر رغبتي في تسجيل ما يختزنه صدري من آهات مقرونة بصور جميلة علقت في ذاكرتي .

ولذا أسجلها على شكل لقطات لازالت محفوظة بوضوح في ذاكرتي وسأسعى جاهداُ إن شاء الله أن أنقل هذه اللقطات إلى أبنائي وكل الناس تأكيداً للمبدأ القرآني [ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين] .

اللقطة الأولى :


كُنت مع أخي الأوسط سُعداء نوعاً ما بسبب العطلة (الإجبارية) التي حصلنا عليها بعد إندلاع حرب الخليج التي شنتها قوات التحالف بقيادة أمريكا لإجبار صدام على الخروج من الكويت التي دخلها في 2/آب/1990 وإعتبرها المحافظة العراقية رقم (19) ..
إلا أن هذه العطلة لم تكن مريحة بالكامل ، فقد كان يُنغصها إنقطاع التيار الكهربائي الذي لم نعتد عليه بل لم نكن نعرفه قبلاً ، كذلك إضطرارنا إلى إحداث حفرة في الشارع المقابل من أجل إستخراج الماء من الإنبوب الرئيسي (الأبّي) والذي إنقطع هو الآخر فوقعنا في حيرة شديدة تتعلق بنقص الماء .
كل ذلك يضاف إليه الرُعب الذي يدخلنا من أصوات الطائرات الأمريكية وقصفها مُتناهي الدقة الذي كان مُستغرباً كونه كان يستهدف البُنى التحتية لحياة العراقيين والتي لا علاقة لها بنظام صدام مثل مشاريع ومُنشآت الماء والكهرباء والطاقة والمصانع .. إلخ .

أجبرنا إنعدام وقود السيارة على إختراع وقود بديل لونه أسود كان والدي يستخرجه من بقايا سائل إسطوانات غاز الطبخ !
أما غاز الطبخ هذا فهو الآخر عوضناه بالذهاب إلى إحدى الغابات البرية (مقابل حي النصر حالياً) لإحتطاب ما أمكن من أخشاب الأشجار هناك للإستفادة منها في خبز التنور الذي كانت إمرأة من جيراننا تجيد خبزه .

وحيث كان شتاءنا هذه المرة مُمطراً بصواريخ الطائرات الأمريكية فإننا إستبشرنا خيراً بالأمطار السوداء التي هطلت علينا بغزارة بعد أواخر أيام الحرب ، وعندما سألت والدي عن سبب سواد مياه هذه الأمطار أخبرني بأن صدام وقبل إنسحابه من الكويت قام بتفجير آبارها النفطية وهو ما أحدث سُحُب دخانية كثيفة جداً جاءت بها الغيوم لتمطرنا لنقوم نحن بدورنا بوضع أقداح كبيرة في الحديقة من أجل جمع أكبر كمية من مياه هذه الأمطار للإستفادة منها وتعويض النقص الشديد لدينا !

اللقطة الثانية :


كان نبأ إنتهاء الحرب قد أحدث فرحة كبيرة لدى الناس لأن العراقيين لم يمضي على خروجهم من الحرب على إيران أكثر من سنتين وإذا بصدام يورط العراق بـ(أم المعارك!) أو أم المهالك كما يحلو للعراقيين تسميتها .
أما النظام المقبور فقد حول هزيمته العسكرية النكراء كعادته إلى إنتصار تأريخي فتحولت السماء إلى لوحة ترسمها يومياً خرطات طويلة من العيارات النارية الملونة الحمراء والخضراء والصفراء الخاصة بالإحتفاليات والتي كنا نطلق عليها (الصعّاديات) والتي كان وهجها قوياً بعد حلول المساء نظراً للظلام الدامس الذي كان يغطينا بفعل القصف الأمريكي لجميع منشآت الكهرباء ..

كُنت مع سيدي الوالد في زيارة لعمتي (أم فلاح) في حي المثنى عندما إلتقينا أحد أحفادها الشباب الذي أخبر والدي بوجود تحضيرات يقوم بها مجموعة من الشباب الإسلامي الثائر للخروج بمظاهرة بعد غد الإثنين والقيام بثورة إسلامية في العراق ..
لم يُتم هذا الشاب النجفي كلامه حتى قاطعه والدي مُحذراً لهُ من إحتمال أن يكون هذا الأمر شِركاً يَتَصَيّد النظام المباد به الشباب المؤمن كما هي عادته في الإرهاب المنظم مُستبعداً في الوقت ذاته أن تحدث ثورة في مثل هذه الظروف .

وما أن حل مساء يوم الإثنين هذا وتحديداً في الساعة الثامنة مساءً وبينما كنا غارقون في الظلام حتى طرقت علينا باب الدار بشدة وبشكل مرعب يدل على حدوث خطب ما .. إنها سيارة الأجرة (الكوستر) فيها المرحوم عمي (أبو باسم) وبعض أبناء وبنات عمي (أبو عدنان) التي جاءوا بها من بغداد للزيارة والإطمئنان على الأقرباء بعد إنتهاء الحرب ..
دخلوا يسلمون علينا مودعين بينما كان عمي (أبو باسم) يصرخ بصوت خليط من شعور الفرح والقلق من المجهول : (إنها ثورة .. صارت ثورة بالنجف .. ورأينا الناس جاي تهجم وتقتل البعثيين ..) أخذوا منا ماء شرب وخبز وقالوا بأنهم سيقفلون راجعين إلى ديارهم في بغداد مهما حدث لأن الأمور تسير إلى المجهول ..
لم أعي حينها معنى كلمة (ثورة) ؟! ما معنى ثورة ؟
فالثورة كانت في ذاكرتنا تعني ثورة 17 تموز المجيدة كما كان يسميها نظام البعث المقبور وكما كان يتم تعليمنا في المدارس وفي التلفزيون رغم أنها أشأم يوم في تأريخ العراق !
إنفعل أبي مع الخبر فأخذ يُزيد من تدخين سجائر (اللّف) التي أعد منها كمية تصل إلى ثلاثون سيجارة ، وهو عدد كبير بالنسبة لإعداد مثل هذه السيجارة المتعبة بعد أن إنقطع إستيراد كُل أشكال السجائر وتوقف إنتاج سجائر (سومر) و(بغداد) العراقية أثناء الحرب ..

أما والدتي فقد إنتابها قلق شديد على خالي (علي) الذي لم يصل بعد إلى البيت رغم أن الساعة تجاوزت الحادية عشر ليلاً (يومها لم يكن لدينا هاتف أرضي فضلاً عن الموبايلات) .. والذي كان قادماً لنا هو الآخر من بغداد هرباً من القصف العنيف قرب منطقة سكناهم ، وبعد إنتهاء الحرب تباطأ في الرجوع فإذا بالقدر يزجه في قلب ثورة النجف !

عاد خالي (علي) في الحادية عشرة والنصف ليلاً وهو يحمل سكين حربي لأول مرة أسمع بإسمه يُدعى (حربة) مع مخزن رصاص رشاش كلاشينكوف (شاجور) قال لنا بأنهُ غنمه عندما هَجَم مع مجموعة من الشباب النجفي المؤمن على المقرات البعثية لتصفيتها من رجسهم ونجسهم فكان نصيبه هذا (الشاجور) و(الحربة) التي أثارني شكلها المرعب حيث إحدى جوانبها المسننة قال أبي أنها تستخدم بكيفية ما لقص الأسلاك الشائكة في الجبهات ..

كانت ليلة طويلة جداً ملئية بالأحداث بالنسبة إلينا ، وكان أبي حتى الفجر يُفتش مؤشر الراديو من أجل الحصول على خبر يُشير إلى هذه الثورة أو أي شيء قريب منها دون جدوى فإضطر إلى إطفاء الراديو خوفاً من نفاذ البطاريات التي إختفت من الأسواق تماماً فلا إستيراد ولا تصنيع محلي ..

اللقطة الثالثة :


في الصباح الباكر .. السادسة صباحاً .. صعدت مع أبي وخالي بسرعة إلى سطح الدار عندما سمعنا صوت إمرأة ترفرف بطرف عباءتها الزينبية وتصرخ في الشارع لتستنهض الناس عموماً والرجال خصوصاً وهي تقول :
( يَهل النجف وينكُم ..
إطلعو ويّة أخوتكُم الثوار ..
لتسكتون على صدام ..
لتسكتون على البعثية ..
لتنسون جرايمه ..
لتنسون أولادكم الشهداء ..
كوموا أخذوا ثارات الحسين وثارات شهداء العراق ..
إطلعوا لتسكتون ..) .

فَجّرت هذه الكلمات بُركان غضب وحَمية لدى الناس بدا واضحاً على وجوههم ومنهُم أبي فبدأ جدار الصمت يتفتت ورهبة النظام الصدامي تتلاشى خلال دقائق ..
خرجنا للشارع الرئيسي قرب تقاطع (مكتب الرشيد) والجيران وأهل الحي معنا يترقبون الوضع وليحطموا كل أشكال المنع الخوف والرهبة ..

لم تتجاوز أحاديث الناس الفرحين بالثورة أكثر من القال والقيل لحين خروج تظاهرة كبيرة من الناس قادمة من جهة حي (الهندية) يتقدمهم جماعة من الشباب المسلح بسلاح بندقية الكلاشينكوف تتوسطهم النساء وهم يهتفون بصوت عالي :
( أبد والله .. ما ننسه حُسيناه ..
ثورة النجف ثورة حُسينية ..
لا شرقية ولا غربية .. ثورة ثورة إسلامية ..) .

لم أفهم آنذاك مغزى هذه الشعارات والهتافات الغريبة على مسامعي ، لكنني لاحظت إنفجاراً في القلوب حَصَل عندما إقتَربَت المظاهرة من تقاطُع مكتب الرشيد وأرادت الدخول في الشارع المؤدي إلى حي الجزيرة ثم غيروا رأيهم وقرروا الإستمرار بالتظاهر على الشارع الرئيسي .

خلال الدقائق القليلة التي وقفت فيها المظاهرة والهتافات الثورية التي أطلقتها برجالها ونساءها تحدث أحد حراس المظاهرة من الثوار مُناشِداً الأهالي بالتبرّع للثوار ولو بطلقة واحدة .. ناشد الأهالي بالتبرع للثوار بالتبرع بكُل ما لديهم من عِتاد وسِلاح لأنهُم بحاجة ماسة إليه ..

حينها قَفَزَ نِداء التلبية من أبي عندما تبرع بصندوق صغير يحتوي على (40) رصاصة من النوع الروسي الجيد كان مُحتفظاً بها مُنذ سنين طويلة فأعطاها تبرع بها إلى الثوار وطلب من خالي تسليمها لهم بعد أن إبتعدوا قليلاً عن المنطقة ..

وعندما عاد خالي في وقت مُتأخر من نفس اليوم بعد إنخراطه في صفوف الثوار ومُشاركته معهُم أخبرنا عن الفرحة العظيمة التي نزلت على الثوار في المظاهرة التي ناشدت بالتبرع بالسلاح فكانت كأنها (40) صاروخ وليس (40) رصاصة فقط !

اللقطة الرابعة :


بدأت أنباء الثوار والذين أطلق الناس عليها صفة المجاهدين بالتوالي وهي تحمل بشائر الإنتصارات العظيمة على البعثيين ومقراتهم وتجمعاتهم ومدى جبنهم وهزيمتهم النكراء وهم يقعون تحت رحمة الثوار المجاهدين الذين يعانون من نقص في العتاد وفيض في الشجاعة والإقدام والبطولة .

نقلت لنا الأنباء كيف تم إكتشاف سجون سرية تحت الأرض وكيف نجح المجاهدين من إطلاق سراح السجناء المعتقلين من مقرات الأمن والمخابرات ومقرات حزب البعث .

كان خالي ينقل لنا أخبار الثوار بعد أن أصبح منهم ولا يعود إلينا يومياً إلا عند الساعة الحادية عشرة ليلاً ، بينما كان والدي يعتمد على راديو السيارة ـ بعد أن نفذت بطاريات الراديو المحمول ـ في معرفة تطورات الوضع .

كان أبي قلقاً جداً من التعتيم على أخبار الإنتفاضة في الإذاعات العالمية في أول يومين (بي بي سي ، مونتي كارلوا ، واشنطن دي سي ..) وكان يُردد بأن الإنتفاضة إذا لم يُعلن عنها ويعرف العالم بها فإنها ستكون تحت خطر الإبادة من قبل الطاغية صدام .

ولكن في اليوم الثالث أصبحت الإنتفاضة بحكم الواقع الذي فرض نفسه بقوة خصوصاً بعد أن إشتعل لهيبها في جميع المحافظات الجنوبية فبدأنا نسمع الأخبار عنها في الإذاعات العالمية .

اللقطة الخامسة :


بعد يومين من إندلاع الإنتفاضة في النجف ذهب بنا والدي بسيارتنا إلى منزل المرحوم جدي (السيد صاحب المؤمن) في محلة البراق بمركز المدينة وخلال الطريق إلى هُناك شاهدت أمور عديدة ، ولم أنسى أبداً منظر جثة البعثي المنتفخة المرمية أمام مبنى محكمة النجف بلباسه الأخضر الزيتوني والذي أجهز عليه الثوار وتُرك لأيام هو وبقية البعثيين وعناصر الأمن والمخابرات وأزلام صدام فتَعفّنت وإنتفخت وكادت أن تَتفسخ لولا توجيهات علماء الحوزة بحرمة ترك هذه الجثث في الشوارع وضرورة دفنها وأن لا يُمثل بهم مهما كان تأريخهم في الإجرام .
وقد إستغل بعض البعثيين الهاربين من غضب الثوار من هذه الجثث كما نقل لنا أحد الأقارب قصة حيلة إستخدمها المجرم البعثي (عبد العظيم سعد راضي) حيث قام بوضع هويته على إحدى جثث البعثيين المحترقة في أحد المقرات البعثية التي هجم عليها الثوار المجاهدون فإنخدع الناس فرحين بأن الثوار نجحوا بالقضاء على هذا المجرم الذي أعدم المئات من شباب النجف المؤمن على يديه .

مررنا بمباني حكومية كثيرة بدا عليها بوضوح آثار الحرق والدمار بفعل المواجهات بين البعثيين وأزلام صدام من جهة وبين الثوار المجاهدين من جهة أخرى . ولفت نظري جداريات صور الطاغية التي حرص الثوار على تدميرها وحرقها بالكامل وبالمقابل رسموا صورة جدارية للمرجع السيد الخوئي “قده” على جدار المبنى المقابل لساحة ثورة العشرين . علماً بأن الثوار قد رفعوا خلال الثورة صور ثلاث شخصيات إعتبروها رموز ثورتهم الإسلامية وهم :
شهيد العراق آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر “قده” (مفجر الثورة الإسلامية في العراق عام 1980)
آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي “قده” (زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف حينها)
آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم “قده” (رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق في حينها) .
وكانت هذه الصور تُعلق في سيارات مؤسّسات الدولة التي سَيطر عليها الثوار (الشرطة ، الإسعاف ، الإطفاء ، البلدية .. إلخ) .

ثُم مَرَرنا يومها بمنزل إحدى عماتي في حي الجديدة (قرب ساحة ثورة العشرين) فقرر والدي الخروج مع نسيبه الحاج حسن معلة للتجول في شوارع “عاصمة الإنتفاضة” ورؤية الأوضاع عن قرب فإصطحبني معه وكانت فُرصَة تأريخية لا يُمكن أن تُنسى أو تُمحى من ذاكرتي .
وقبل أن نَتحرك شاهدت أحد شباب المنطقة وهو يأتي برصاصة ويفرغ البارود الذي بداخلها ليكتب به على الأرض (صدام الكافر) ثُم يشعلها فتلتهب الكتابة بأقل من لحظة .

كان هُناك منظر أثار إنتباهنا كان بالقرب من عمارة الحياة عندما صادفنا جُندي بلباسه العسكري يبدو عليه آثار الإنهاك والإنهيار والهزيمة والمسكنة وهو يخط برجليه من شدة التعب يبدو أنه كان هارباً من إحدى القطعات العسكرية المشاركة في غزو الكويت فإذا بالناس يتلفون حوله بين من يسأله عن ما يعرف من أخبار الجيش وبين من كان يحقق معه حول هويته وبين من يتهمه بأنه جاسوس مبعوث من صدام ..
هُنا تدخل الحاج حسن معلّة وخاطب الناس طالباً منهُم بأن يرحموا حال الرجل المنهار وطلب منه الإسراع بالعودة إلى منزله وخلع ملابس الجيش التي كادت أن تودي بحياته ظناً من الناس بأنهُ بعثي أو من جماعة صدام !

وقبل أن نصل إلى شارع الإمام الصادق “ع” لفت إنتباهنا خروج مُظاهرة نسوية من شارع الخورنق بإتجاه ساحة الميدان قدرنا عددها بقُرابة المائة إمرأة وهن يهتفن بشعارات مثل (هلة ببنات الزهرة .. هلة بخوات زينب) و(ثورة ثورة إسلامية .. لا شرقية ولا غربية) وكُن يحملن صورة شهيد العراق آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى “رض” .

كان للنساء دور كبير في دعم الثوار المجاهدين حيث تبرعت مجموعات كبيرة من النساء بطبخ الغداء والعشاء والفطور للمجاهدين وخصوصاً المقاتلين منهم الذين يتواجدون في ثغور المدينة والمواجهة مع أزلام النظام المباد .

وصلنا أخيراً إلى ساحة كانت مُعدة كمطار عسكري للمروحيات (الكراج المجاور لمقام الإمام زين العابدين “ع” حالياً) وإذا بها عبارة عن مشجب ومخزن عسكري كبير للأسلحة التي غنمها الثوار من أجهزة النظام المباد سمحوا لنا بالدخول إليها ورؤيتها عن قرب بعد أن تعرف علينا الشخص المكلف بحراسة المخزن فوجدنا فيها قذائف مدفعية ومخازن عتاد رصاصات رشاش دوشكا وقذائف مورتر (هاون) وجهاز رادار كانوا يقولون أنهم بحاجة إلى من يعرف طريقة تشغيلها وغيرها من أمور كثيرة ..

وأثناء خروجنا من ساحة المخزن حضر شيخ مُعمّم يرتدي نطاقاً عسكرياً ويحمل مُسدس في جانبه دون أن يرتدي عباءة قال أنهُ من أهالي الحلة من منطقة لا أتذكُرها وطلب من مسؤول المخزن بتوفير الدعم والسلاح الكافي للثوار من أبناء منطقته ليتمكنوا من الإستمرار في مُقاومة أزلام الجيش الصدامي .. كان أبي ينظر لهذا الشيخ الحلي المسلح بإعجاب بالغ كونه أعاد إليه منظر أبطال الثورة الإسلامية في إيران الذين فجروا الثورة بقيادة السيد الخميني “رض” .

اللقطة السادسة :


بعد الغَدر الأمريكي بالثورة الإسلامية في العراق قَرّرت قوات التحالف بقيادة أمريكا إطلاق يد الطاغية صدام والسماح لهُ بالقضاء على الثورة وبأبشع صورة فسكتت أمريكا عن قيام صدام بإستخدام الطائرات المروحية والمدافع الثقيلة بل حتى صواريخ الأرض ـ أرض كما حدث في النجف وكربلاء لاحقاً .

حينها بدأ القصف المدفعي يقترب جداً من الأحياء الشمالية القريبة لمنزلنا قرب منطقة مكتب الرشيد وسمعنا بأن معارك ضارية إندلعت بين المجاهدين وقوات الجيش الصدامي في المزارع القريبة من المطحنة .

إستدعت شدة القصف وإقترابه أن يقرر والدي الهروب بسرعة من القصف قبل أن تقع قذيفة ما علينا فأخذنا على عجالة صندوق كارتون وضعنا فيه كميات متواضعة من الطحين والسكر والزيت لم نكن نعلم بأنها ستكون فيما بعد المواد التي ستنقذ حياتنا من شبح الموت جوعاً بسبب ما لاقيناه لاحقاً .

ولا يُمكن أن أنسى المنظر الذي شاهدناه في الطريق إلى منزل جدي من قيام ثوار النجف الأبطال وهُم يذهبون بالمئات بشاحنات (اللوري) الضخمة للجهاد في كربلاء ضد قوات صدام دفاعاً عن حُرمة مرقدي الإمام الحسين “ع” والعباس “ع” ، كان منظراً رهيباً بحق .. الآلاف من خيرة شباب النجف المؤمنين الشُجعان الأطهار وهُم يحملون على ظهورهم صواريخ قاذفات (R.P.G) وعلى صدورهم مع عَشرات القنابل اليدوية (الرمانات) .. هتافاتهم تُزلزل شارع كربلاء ـ نجف ( ثورة النجف ثورة حُسينية ) ( أبد والله ما ننسى حُسينا ) ( الموت لصدام الهدام) (لا إله إلا الله .. صدام عدو الله) ..

وبعد أن إستقر بنا الحال في بيت جدي المرحوم السيد صاحب السيد جاسم المؤمن والكائن في محلة البراق مُجاور (مسجد أهل البيت “ع” حالياً ـ خلف براني السيد السيستاني) إنتابنا شعور وإحساس كبير بالأمان والقوة ، فالبيت ذو (90) متر مربع مع سرداب نيم وسرداب عادي وسرداب آخر يدعى (سرداب سن) شُبه مطمور بسبب الرطوبة العالية بالإضافة إلى طابقين في الأعلى ، كما أن موقع البيت كان يُعتبر في قلب عاصمة الإنتفاضة وأحداثها وغُرفة عملياتها المتمثل بمركز المدينة القديمة .

لم نعُد نسمع بعدها أصوات المدافع والقذائف إنما نسمع أصوات سماعات الصحن وإذاعتها ونداءات قيادة الثورة كل قليل : ( نداء .. نداء .. نداء .. ) ثُم يتلو قاريء النداء بياناً حول الثورة وأوضاعها .. مرة حول إنتصارات المجاهدين ومعاركهم ، ومرة حول إكتشاف سجون سرية للنظام المباد تحت الأرض ، ومرة مناشدة للتبرع بالدم أو الغذاء أو المال .. إلخ .

شاهدت على رصيف شارع الرسول “ص” نهاية الفرع الذي كُنا نسكنه مفرز طبية لإسعاف الناس عموماً والمجاهدين الثوار خصوصاً يشرف عليها مُعاون طبي من آل الرواف .

وفي أحد الأيام كُنت بصُحبة أبي بعد جولة في شوارع وأزقة عاصمة الثورة دخلت بعدها إلى العتبة العلوية المقدسة فلَفَت إنتباهي كيف أن المجاهدين كانوا يَتَرَكّزون بالعتبة ويتخذون منها مركزاً لعملياتهم حيث إستفادوا من غرف الصحن وأنشأوا إذاعة محلية خاصة بالإنتفاضة وأخبارها وبياناتها في الركن الجنوبي الغربي من الصحن ، وعلى سقف كيشوانية القبلة قام أحد المجاهدين بإلقاء منشورات تلقفها الناس بلهفَة وسُرعة شديدة قيل بأنها صحيفة ناطقة بلسان حال الثورة .

وقبل أن نخرُج من باب القبلة رأينا شخصين من الثوار يجلسون أمام غرفة الكيليدارية يضعون أمامهم صندوق مكتوب عليه تبرّعات للثورة ، هُنا أخرج أبي مَبلغ (5) دنانير وطَلَبَ مني أن أسلمها لهم بنفسي بعد أن إبتعد قليلاً عنهم ، وفيما بعد علمت بأن والدي لم يُسلم التبرع بنفسه وفضّل الإبتعاد لأنهُ كان يتوقع وجود جواسيس من الأمن والمخابرات والبعثيين من المحتمل جداً أنهم كانوا يُراقبون الأوضاع ويشخصون الأسماء المتعاونة مع الثورة ، وهو ما حصل .

وعندما بدأ الحصار والقصف الصدامي يَشتد ويقترب أكثر فأكثر أصبح الخروج من الدار صعباً جداً ومُغامرة رهيبة ، وبسبب النقص الحاد في مياه الشرب فقد حاولنا الخروج إلى منزل أحد أقاربنا في منطقة الجديدة للحصول على ماء الشرب ولكن لم يتجاوز ما حصلنا عليه أكثر من (10) لترات بالكاد كانت تكفينا .

كانت مُشكلة الماء تقلقنا أولاً لعددنا الكبير وثانياً لإشتداد الحصار علينا أكثر فأكثر ، حينها فكّر والدي بالمستحيل لجعله مُمكناً !
كان منزل جدي مُصمم على طريقة البناء النجفية القديمة حيث كانت توجد فيه بالوعتان للمياه واحدة للمياه الثقيلة (النجاسة) والأخرى لمياه الطبخ ولأن الناس في ذلك الزمان كانوا يستحرمون أن يجتمع فضلات الطعام في نفس بالوعة المياه الثقيلة (النجاسة) إكراماً لنعمة الطعام .

قرر والدي أن نستعين بمياه بالوعة مياه المطبخ بعد أن نُصفيها من الأوساخ ونغليها بالنار لتعقيمها ولكن دون أن نشرب منها شيئاً وإنما لإستخدامها في الغسل الضروري وتطهير ملابسنا ، أما مياه الشرب فقد كان هناك بقايا ماء طاهر ونظيف في خزان سطح الدار تقدر كميته بعشرون (20) لتر خصصه السيد الوالد فقط للشرب .

ولكن ما أن أردنا تنفيذ فكرة الإستفادة من مياه بئر الطبخ التي إستخرجنا منها كمية عبر مد الحبال والأقداح حتى واجهنا مشكلة عدم وجود وقود أو حطب لتغليته وتعقيمه ، فما كان أمامنا إلا أن نقتلع باباً خشبية قديمة في الطابق العلوي قرب سطح الدار ثُم نُكَسّرها إلى قطع أصبحت صالحة للحطب الذي أنجز المهمة !

أما الغذاء فقد كان بقايا الطحين والسكر والزيت حافزاً لنسائنا لأن يَصنَعنَ بعَمَل حلوى (العصيدة) والتي لم أكُن آكُلها لولا عَدَم وجود أي بديل ، فلا يوجد أي أكل من أي نوع إطلاقاً .

أما الخبز فقد كانت نساءنا تعمل قرص خبز دائري بحجم كف اليد على مدفأة خصصت للطبخ فقط وليس للتدفئة تقرر أن تكون حصة كُل فرد منا قرص واحد في اليوم عدا الأطفال فإن حصتهم قُرص ونصف !!

اللقطة السابعة :


بعد أن إستعصى على صدام وأزلامه من الحرس الجمهوري الدخول إلى المدن الثائرة وخصوصاً مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة حيث إستبسل المجاهدون الثوار في الدفاع عن ثورتهم وبروح جهادية مُتفانية في الدين والوطن مُنقطعة النظير ، حينها قررت مُخابرات صدام إستخدام خُطة خبيثة إعتبرها الكثير من الذين عاشوا الحالة واللحظة بأنها كانت نُقطة التحول الرئيسية لبداية إجهاض الإنتفاضة عسكرياً ، حيث تَمكّن أحد جواسيس صدام من تسريب إشاعة كاذبة حول مقتل صدام ! وكان وقت الإشاعة بعد صلاة المغرب فتم الإعلان عنها في سماعات صحن العتبة العلوية المقدسة ،
وهُنا كانت المفاجئة عندما قام جميع ثوار النجف وكُل المجاهدين في جميع أحياء النجف وشوارعها وأزقتها بإطلاق النار الكثيف جداً ولمدة أكثر من (15) دقيقة إبتهاجاً بهذه الإشاعة الخبيثة والتي نَجَحَت إستخبارات الجيش الصدامي من تَحديد أماكن تركّز العتاد ونوعيته لدى المجاهدين .

بالأثناء فاجئتنا المرحومة عمتي العلوية فاطمة بفعل لم نكُن نَتَوقّعه من شخصيتها الهادئة عندما قامت بالزغردة والهلاهل بصوت عال وكادت أن تطير من على الأرض وهي تصرخ : (صلوات على مُحمد .. صدام مات .. صدام مات ..) بالوقت الذي كان والدي يصرخ بالثوار القريبين من الزقاق : (لا تطلقوا النار .. لا تطلقوا النار .. أنتُم بحاجة للعتاد .. تأكدوا من الخبر .. لا تستعجلوا ..) .

لم يكد يطلع الفجر حتى بدأنا نسمع قذائف المدافع تقترب أكثر فأكثر .. لقد تَمَكنوا من تحديد مواقع القوة العسكرية للمجاهدين وحددوا أماكنها .. لم يتجاوز الوقت الظهيرة حتى تساقطت صواريخ (أرض ـ أرض) على بيوت الأهالي قرب شارع المدينة المنورة جنوب مركز المدينة فشاهدت ولأول مرة مناظر مُرعبة لجثث مُقطعة وشُهداء غارقين بدماءهم تحملهم سيارات الحمل (البيك ـ آب) في شارع الرسول “ص” مُتجهة ببعضهم إلى المستوصفات الصحية والبعض الآخر إلى المقبرة لدفنهم ..

حينها علمنا بأن صدام كان قد حصل على الضوء الأخضر كاملاً من قوات التحالف بقيادة أمريكا عندما إستخدم صواريخ (أرض ـ أرض) للقضاء على الإنتفاضة وثوارها وبأي ثمن .. فهي صواريخ لا تستخدم إلا في المعارك الضخمة وضد مواقع وآليات كبيرة للعدو ..

بعد ذلك ومع بدأ الحصار وإقتراب الجيش الصدامي كان أحد مخابرات صدام يختبيء في أحد بيوت محلة البراق ويطلق من مسدسه طلقات بصورة منتظمة على شكل إشارة ولمدة نهار كامل فأحس الثوار المجاهدون بذلك فإستأذنوا من والدي بأن يصعدوا في سطح بيت جدي الذي لجأنا فيه بإعتباره مرتفع لإستطلاع الوضع والتحري عن مكان ومصدر إطلاقات هذا العميل الصدامي فدخل ثلاثة منهم كانوا يرتدون دشاديش عليها أحزمة مليئة بالرصاصات والرمانات والمسدسات فصعدوا وتحروا مصدر الإطلاقات وشخصوا مكاناً مُحتملاً ثم ذهبوا إليه ولكن يبدو أنهم لم يعثروا على هذا العميل .

اللقطة الثامنة :


بلغ بنا العطش مبلغاً كبيراً هَدّد حياتنا فقرر والدي وأقاربنا الخروج من البيت بأي ثمن والذهاب إلى بيت عمه المرحوم السيد إبراهيم المؤمن في الجديدة (مُجاور كراج الرابطة حالياً) فخرجنا جميعاً بإتجاه هذا البيت الذي لم يكُن يبعد أكثر من شارع واحد .

وقبل أن نخرج من داخل محلة البراق شاهدنا سيارة نقل ركاب (O.M) جديدة قرب مسجد الطريحي يقف بجانبها حوالي أربعة مُجاهدين وهُم يقومون بتعبئة رشاشات وقذائف (الآر بي جي سفن) بالصناديق في هذه السيارة للذهاب إلى منطقة أخرى .

فور أن خرجنا من محلة البراق ووصلنا السور (جبر ليباوي) أطلق علينا أحد أزلام الجيش الصدامي رشقات طويلة من سلاحه الرشاش فوق رؤوسنا وكان يَتَمَترَس مع مجموعة من الجيش الصدامي في بناية عالية فما كان من نسائنا إلا أن يدعون الله بصوت مرعوب (الغوث الغوث يا الله) .

بعد أن وصلنا إلى هذا البيت وجدناهُم ليسوا أقل سوءً من حالنا ، فَقَد أصابهُم الهَلَع عندما وقعت عليهم قذيفة مدفع أسقطت سَقف الغُرفة الجنوبية في الدار على المرحوم السيد محمد باقر المؤمن فنجا من الحادث بإعجوبة .

كانوا يشكون هُم أيضاً من شحة الماء ونقص المؤونة الغذائية ، عندها قرّر والدي أن نعود أدراجنا مَرة أخرى إلى منزل جدي والبقاء فيه حتى إنجلاء الموقف ومهما كانت النتيجة ، خصوصاً بعد أن نَصَحنا أحد المجاهدين الثوار وكان قد نَزَع عدته وسلاحه بأن لا نخرُج من بيتونا قبل أن يستقر الوضع لأن أنباء وصلتهم تؤكد بأن أزلام الحرس الجمهوري قد إرتكبوا مجازر إبادة شنيعة ومقابر جماعية بكل من يصادفونهم في طريقهم مهما كانوا أطفالاً أو نساءً أو شيوخاً ، بل علمنا فيما بعد بأن أزلام الحرس الجمهوري والذين كان جميعهم من أبناء المحافظات الغربية قد رفعوا شعار (لا شيعة بعد اليوم) كتبوه على دباباتهم وعلى جسر الكفل تأكيداً لحقدهم الطائفي الدفين .

اللقطة التاسعة :


كانت أجواء رهيبة لا يُمكن وصفها بكامل أبعادها المأساوية مهما كتبت عنها عندما دخل الجيش الصدامي مركز المدينة ، كان الشباب النجفي المؤمن يتهافتون بشوق عجيب للإستشهاد دفاعاً عن حُرمة مرقد الإمام أمير المؤمنين “ع” وقتال البعثيين الأرجاس وأزلام الحرس الجمهوري المجرم .

كانت صرخات المجاهدين تُزلزل الجبال وتُفتّت الصخور الصماء وهُم يُنادون بأعلى أصواتهم (اللهم إرزقنا الشهادة .. اللهم إرزقنا الشهادة ..) و(يا لثارات الحسين) ..

بعدها سمعنا تكبيرات وصلوات الجماهير النجفية بالقرب من العتبة العلوية المقدسة وسألنا عن السبب قيل لنا أن عالم دين من السادة آل الصدر (شهيد الجمعة المرجع السيد محمد الصدر) قام بإصدار بيان وتلاوته من على سطح كيشوانية باب القبلة أفتى فيه بالجهاد وتشكيل خلايا مُهمتها قيادة وإدارة الثورة بحسب إختصاصاتها المدنية والعسكرية والإجتماعية .. إلخ ، فتباشر الناس خيراً خصوصاً بعد أن خلت الثورة من أي قيادة ميدانية مُعلنة وموحدة ، ولكن يبدو أن الأوان كان قد فات .

فقد كان أزلام الحرس الجمهوري وآلياتهم وبتوجيه المقبور حسين كامل قد قرروا إقتحام مركز المدينة من جهة مقبرة وادي السلام فحدثت معارك طاحنة هناك أدت إلى نفوق أعداد هائلة من أزلامهم وذلك لسببين : الأول أن أفراد أزلام الحرس الجمهوري وخصوصاً اللواء المكلف بإقتحام المقبرة كان أفراده مُعظمهم ممن لم يدخُل أو يُشاهد النجف في حياته كونهم كانوا من أبناء المحافظات الغربية (الأنبار ، تكريت ، الموصل) والتي أطلق عليها النظام المقبور تسمية (المحافظات البيضاء !) فكانوا يجهلون طبيعة وخريطة هذه المقبرة .

وثانياً لأن المقبرة لم يكُن فيها شوارع وطُرقات كما هي عليه الآن ، وهو ما إستدعى منهُم لاحقاً تفجير المقابر لأكثر من إسبوع بعد إجهاض الإنتفاضة ليشقوا طرقات وشوارع تَمكن آلياتهم ودباباتهم من السيطرة على المقبرة بوقع (50) متر بين شارع وشارع .

عندها تصدى لهُم شباب المقاومة النجفيين المدافعين عن حُرمة المدينة وقُدسيتها وثورتها فقاموا بتصفية عدد هائل منهُم بواسطة القنص وقاذفات الآر بي جي ، حتى قيل : أن المقاتل الثائر النجفي كان يقاتل مع الموتى وقبورهم وهو ما أدخل رُعباً شديداً في صفوف القوات الصدامية التي إستعانت بالطائرات المروحية .

فيما تَمَكّن المجاهدين النجفيين من تفجير الدبابات التي حاولت إقتحام مركز المدينة من جهة شارع الإمام الصادق “ع” تمكن من تفجير دبابة قرب مصرف الرشيد وتحويلها إلى عبارة عن فحم مُشتعل ونفس الأمر حصل في شارع الإمام زين العابدين “ع” ففشل هجومهم لولا أن تدخلت طائرات الهليكوبتر التي كانت تقتنص المجاهدين وتحاصرهم بنيرانها .

تقهقر المجاهدون بفعل قصف الطائرات المروحية فتمكن أزلام الحرس الجمهوري من الوصول إلى عمق المدينة القديمة وأزقتها فبدأت المقاومة بالضعف خصوصاً بعد أن بدأ أزلام الحرس الجمهوري بإطلاق نار كثيف جداً أثناء الوصول داخل كل فرع من فروع المدينة القديمة والتي لا يتجاوز عرضها أكثر من مترين فيقومون بتمشيطه بعدد هائل من الإطلاقات النارية لمنع أي مُقاومة خلالها .

أما في مرقد أمير المؤمنين “ع” فقد ضرب المجاهدون الثوار أروع الأمثلة في الفداء والتضحية والإخلاص والشجاعة والإستبسال والإيمان أثناء قتالهم ودفاعهم عن حرمة المرقد المقدس وبقي الثوار داخله يقاومون ويمنعون أي مُحاولة لإقتحامه وتنديسه ، وبعد أن عجز أزلام الحرس الجمهوري عن القضاء على المقاومة الشرسة والشجاعة من داخل المرقد العلوي الشريف إضطر إلى تدمير باب المرقد الشريف من جهة السوق الكبير (باب الرضا “ع”) وحرقها بالكامل ليتسنى لجرذانه دخول المرقد وتدنيسه وإعدام كل من فيه .

ولن أنسى صياح مؤذن العتبة العلوية عبر المكبرات بأعلى صوته في آخر لحظات حياته قبل أن يصعد إليه جلاوزة الحرس الجمهوري وهو ينادي : ( اللهم إرزقنا الشهادة .. اللهم إرزقنا الشهادة ..) حتى إختفى صوته وخمُد فعرفنا بأنهُ قد تم إعدامه فوراً ونال الشهادة ..

وخلال هذه الفترة وساعات القتال الشرسة والتي دامت قرابة اليومين كان والدي قد قرر أن نختبيء جميعنا تحت السرداب لأن الأوضاع كانت تشير إلى إحتمال حصول أمور لا تُحمد عقباها ، فقذائف المورتر (الهاون) أصبحنا نميزها جيداً من صوتها الذي يشبه الصفير أصبحت تتساقط قريباً جداً من بيت جدي ، بل سقطت شرفات منازل جيراننا وتحطمت أجزاء كبيرة من بيتوهم .

قام والدي بمجموعة من الإجراءات الإحترازية لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه فوضع (ميز) فوق فتحات السرداب وقال بأن ذلك من شأنه في حال تهدم البيت علينا بفعل القصف أن يحمي فتحات الهواء التي قد تبقينا أحياءً فلا نموت إختناقاً !

وعندما نزلنا جميعاً في السرداب أخذنا جميع ما لدينا من غذاء وغِطاء وأفرشة لأننا لم نعُد نُفكر بالصعود أبداً ، حينها قام والدي بفعلٍ أثار الرُعب في نفوسنا ولكنه كان إجراء إحترازي ضروري في مثل هذه الحالات الخطيرة والحساسة ، حيث قام بتوزيع أماكن جلوس كُل فرد منا تحت أحد أركان الغُرفة التي إتّخذناها ملجئاً أخيراً في السرداب ، فوالدتي كان معها أخي الصغير “صاحب” وأنا مع إحدى عماتي وأبي كان مع أخي الأوسط وهكذا بالنسبة لبقية أقاربنا ..

أما تفسير هذا الفعل في توزيعنا على أركان غُرفة السرداب فقد كان إجراءً إحترازياً يزيد من إحتمال نجاة أكبر عدد مُمكن في حال تعرّض البيت إلى القصف وسَقَوطه علينا ، ذلك أنهُ من الثابت والمعروف بأن أي بناء عندما يسقُط فإن أركانه تبقى صامدة .

اللقطة العاشرة :


بعد أن خرجت بصحبة عمتي (أم فلاح) لأجل البحث عن أي مكان يبيع الأكل بإتجاه شارع الرسول “ص” كان أول منظر مُلفت رأيته هو منظر ثقب القذيفة الأسود الذي إخترق قبة مرقد الإمام أمير المؤمنين “ع” من الجهة الجنوبية الغربية تقريباً .
كان منظراً مفجعاً وأليماً وشنيعاً جداً آلمني كثيراً على صغر سني حينها وكانت قبة مرقد مسلم بن عقيل “ع” في الكوفة قد ثقبت أيضاً بقذيفة طائرة أمريكية أثناء هجوم قوات التحالف قبل أسابيع من الإنتفاضة فكان الإعتداء على هذين القبتين المقدستين بحق نذير شؤم وبلاء حل على العراق والعراقيين .

كانت الطائرات المروحية الهليكوبتر تجول في أعلى المدينة بكثافة وتُنادي على الجنود الهاربين وتُطالبهم بتسليم أنفُسهُم للإلتحاق بوحداتهم العسكرية ، وعُيّنت وحدة إنضباط عسكري كانت تتخذ من فندق السلام مقراً لها ، والمؤلم أن كثيراً ممن سلموا أنفسهم وخصوصاً الوجبة الأولى تم إقتيادهم إلى مكان مجهول ثُم إعدامهم وإنقطاع أخبارهم للأبد . (ومنهم إبن عمي الشهيد البطل السيد أياد السيد صالح المؤمن الذي سلمه والده بنفسه أملاً بأن ينجو من بطش البعثيين الأرجاس وكان مسؤول مربض رشاش دوشكا) .
بينما نجا خالي (علي) من حملات الإعدام هذه عندما تأخر بضعة أيام في تسليم نفسه للجيش .

قرر والدي أن نُكمل مسيرنا للوصول إلى السيارة التي دهشنا عندما وجدناها لم تُصب بأي أذى فحمدنا الله تعالى وركبناها وخرجنا بسرعة .. لنعود إلى منزلنا ولتبدأ قصة أخرى من المعاناة والإرهاب التي عشناها كبقية النجفيين .

التعليقات مغلقة.