تأثير العارف على السياسة .. في فكر الإمام الخميني

579

تأثير العارف على السياسة .. في فكر الإمام الخميني

بقلم / د . السيد مُحمد الغريفي

العرفان يتناول البحث في عالم الوجود وعلاقة الإنسان مع نفسه ومع الله عن طريق الأصول الكشفية، ويتناول كيفية القرب من الله حيث يطلق على هذا الجانب مصطلح السير والسلوك.

ثمة آراء مختلفة حول العلاقة بين العرفان والسياسة : فالبعض يرى من خلال إعطاء تعريف خاص للعرفان ، بأن الفكر العرفاني لا يستطيع أن يؤسس للفكر السياسي لأن العرفان يعتمد اعتـزال الدنيا ، في حين يكرس الفكر السياسي نشاطه للسلطان الدنيوي . وفي المقابل ثمة فئة أخرى تعتقد بأن العرفان والسياسة على اتصال مع بعض ومن الممكن تأسيس الفكر السياسي على ضوء الفكر العرفاني والإستفادة منه بمثابة قاعدة للفكر السياسي .

الإمام الخميني من جملة المفكرين الذين يؤكدون على العلاقة بين العرفان والسياسة ، إذ أن سماحته يُقدم تعريفاً لكل من السياسة والعرفان يجعلهُما مُتصلين معاً : (إن فئة كبيرة تتصور أن مفهوم العرفان هو أن يجد الإنسان له مكاناً معزولاً يردد فيه الذكر ويؤدي حركات مُعينة راقصة . فهل هذا هو مفهوم العرفان ؟ لقد تصوروا بأن العارف هو الذي يختار العُزلة ويُردد الذكر وينشد المدائح).

ويمضي سماحته بالقول : (بأن مثل هذا العمل لا يتطابق مع سيرة الأئمة ، وأن الكثير من الأئمة والأنبياء أمثال إبراهيم وموسى والنبي مُحمّد والإمام أمير المؤمنين ، وفي ذات الوقت الذي يتحلون بالعرفان كانوا يخوضون في السياسة ويتابعون شؤون الخلق).

كان الإمام الخميني يؤمن بأن الفكر الذي يسطع من نور معرفة الله ينبغي له أن يضيء بنوره على المجتمع كي يتسنى للجميع الإستفادة منه . وكان سماحته يقول : (لا صومعة الصوفية تعتبر دليلاً على الاتصال بالحق ، ولا النزول إلى المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد على الانفصال عن الحق ، إذ أن المعيار والملاك في الأفعال هو دوافع الأشخاص).

وعموماً ، وإنطلاقاً من الرؤية العرفانية الخاصة التي كان يتمتع بها الإمام الخميني ، لا يؤمن سماحته بالانزواء في البرج العاجي وسلوك العرفان السلبي الذي عليه الكثيرون ، وإنما خرج من ذلك ونزل إلى وسط الخلق وإهتم بإصلاح الخلق بإعتباره مُمارسة عرفانية ، وطرح مبدأ القيام من أجل الله .

في الحقيقة أن الإمام الخميني ، وبناءً على هذه الرؤية العرفانية ، كان يرفض الفصل بين الدنيا والآخرة ، إذ يقول : (يجب أن لا يتصور أحد بأن الإسلام جاء لإدارة الدنيا ، أو أنهُ جاء ليوجه إهتمام الناس إلى الآخرة فحسب . أو أنهُ جاء ليُطلع الناس على المعارف الإلهية [فقط] . إن مثل هذه المحدودية مهما كانت فهي خلاف الواقع . فالإنسان ليس له حدود ، ومربي الإنسان ليس له حدود . كما أن منهج تربية الإنسان – الذي هو القرآن – غير محدود أيضاً).

إن الإمام الخميني ينظر بمثل هذه الرؤية العرفانية حتى إلى السلطة ، فعلى سبيل المثال يقول سماحته في شرح دعاء السحر : (إن السلطة ليست أكثر من وسيلة لإثبات حقانية النظام الحق واستقراره .. إن القدرة الوحيدة القادرة على تحقيق حقانية الحق في العوالم الإنسانية إنما هي القدرة التي يتصل تسلسلها بذات الحق بشكل كامل ومن دون وسيط.. القدرة هي من امهات الصفات الإلهية).

الإمام الخميني يرى العرفان الحقيقي في أن يعتبر الإنسان نفسه في محضر الله دائماً ، ويشعر بأن الله حاضر وناظر لأعماله .. وكان سماحته يحرص على طرح وترجمة هذه الرؤية العرفانية حتى في اوساط السياسيين . فعلى سبيل المثال وجّه خطابه لكبار المسؤولين قائلاً : (الجميع في موضع الامتحان أمام الله .. ففي تلك اللحظة التي تمسك القلم اعلم أنك تمسكه في محضر الله . وعندما تريد أن تتكلم فإعلم أن لسانك وقلبك وعينك وسمعك في محضر الله .. العالم محضر الله . فلا ترتكبوا المعاصي في محضر الله .. أريد أن اوصي جميع الذين يُمارسون الكتابة والخطابة بأن يتنبهوا إلى أن أقلامهم وألسنتهم في حضور الله ، وسوف يؤاخذون على ما يكتبون ويقولون).

الإمام الخميني من خلال نظرته العرفانية والأخلاقية يُبدي إهتماماً خاصاً بباطن الإنسان وروحياته وصفاته وأخلاقه وسيرته ، ويتصدى في خطاباته وكتاباته لدراسة الإنسان والفرد حيث كونه مُهذباً أو غير مُهذب، وكيف يكون تأثيرهُما على السياسة :

1- سياسة الفرد المهذّب :

إذا كان الإنسان مُهذّباُ ، أي من أخضع نفسه لتربية الأنبياء . وكان على رأس الشؤون السياسية ، فإن توجه سياسته سيعتمد قاعدة اللاشرقية واللاغربية ، لأن جذور هذا الأمر نابعة من الصراط المستقيم . كما في قوله التالي : (فإننا عندما نكون موحّدين ، وعندما نكون يداً واحدة ، عندها يُمكننا أن نقف بوجه العالم كله ونقول إننا لن نسير نحو المغضوب عليهم ولا نحو الضالين . لن نسير نحو الغرب ، ولا نحو الشرق . نعم عندها يُمكننا أن نكون هكذا ، وأن نسير على الصراط المستقيم).

2- سياسة الفرد غير المهذّب :

يَعتبر الإمام الخميني أن السياسة مُرتبطة بالقوى الباطنية للإنسان (الوهم والغضب والشهوة) ، فإذا كان السياسي غير مُهذب لقواه الباطنية  فتكون أعماله وتصرفاته على النحو التالي : (يقهر ويظلم كل من تصل إليه يده ، وكل من يُبدي أمامه أي مُقاومة يفعل به ما أمكنه فعله ، وعند مُواجهته لأي أمر لا يُلائمه يشعل الحرب والضجيج ، ويبعد عن نفسه مضار ما لا يُلائمه بأي وسيلة كانت ، حتى لو أدى ذلك إلى أي إفساد في العالم .. وكذلك هي قوة الغضب عند الإنسان ، بحيث إذا أصبح مالكاً مطلقاً للرقاب في بلدٍ ما ، فإنه سيلتفت إلى البلد الآخر الذي لم يُمسك بزمامه بعد ، بل إنهُ كلما طالبت يده أكثر كلما ازدادت هذه القوة فيه).

وفي ضوء ذلك ، فإن الأصول العرفانية للإمام الخميني ، قد تركت تأثيرها على الفكر السياسي لسماحته وأضفت سمة خاصة على هذا الفكر ، حيث يتجلى تأثير العرفان بوضوح لدى دراسة نتاجه السياسي .في الحقيقة أن سيرة الإمام الخميني تدل على أن العارف المتدين ليس الذي لا يُفكر إلا براحته فقط، وإنما من يتطلع للإصلاح أوضاع الناس كافة في هذه الدنيا ، لذا فإن الإرتباط الذي يوجده بين الدين والسياسة تصبح السياسة مزينة بمعنوية الدين .

التعليقات مغلقة.